فصل: (بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى):

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْبِيعَةَ أَوْ الْكَنِيسَةَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا بُنِيَتْ لَهَا (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَالظُّلَّةُ مَا تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ بِحَيْثُ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً (وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ) لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ.
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ.
وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى) أَرَادَ بَيَانَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُحْلَفُ عَلَيْهَا فِعْلًا فِعْلًا فَبَدَأَ بِفِعْلِ السُّكْنَى لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ أَنْ يَحُلَّ مَكَانًا ثُمَّ يَفْعَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ اللُّبْسِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ لَكِنَّ حَاجَةَ الْحُلُولِ فِي مَكَان أَلْزَمُ لِلْجِسْمِ مِنْ أَكْلِهِ وَلُبْسِهِ.
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ الْكَنِيسَةَ) وَهُوَ مُتَعَبَّدُ الْيَهُودِ أَوْ الْبِيعَةُ وَهُوَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ عِنْدَنَا لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا عَلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا كَمَا عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعُرْفِيِّ: أَعْنِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا مَعَانِيهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا فِي الْعُرْفِ، كَمَا أَنَّ الْعَرَبِيَّ حَالَ كَوْنِهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ فَوَجَبَ صَرْفُ أَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى مَا عُهِدَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَا.
ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَا جَرَى عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فَحَكَمَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ والمرغيناني وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَيَّدَ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْعُرْفِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلِيُّ بِحَقِيقَتِهِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُصَيِّرُ الْمُعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ إلَّا مَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ بَلْ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ، وَأَنَّ مَا لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ وَوَضْعٌ عُرْفِيٌّ يُعْتَبَرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُتَكَلِّمٌ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَهَذَا يَهْدِمُ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَيِّرْ الْمُعْتَبَرَ إلَّا اللُّغَةَ إلَّا مَا تَعَذَّرَ وَهَذَا بَعِيدٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفَ اللُّغَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ غَيْرَهَا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا.
نَعَمْ مَا وَقَعَ اسْتِعْمَالُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ تُعْتَبَرُ اللُّغَةُ عَلَى أَنَّهَا الْعُرْفُ، فَأَمَّا الْفَرْعُ الْمَذْكُورُ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ نَوَاهُ فِي عُمُومِ بَيْتًا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَيْتٍ، وَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَنَا بِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْعُرْفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُوجِبُ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مَعْنًى عُرْفِيًّا لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ انْعَقَدَ الْيَمِينُ بِاعْتِبَارِهِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَالْكَعْبَةُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا بَيْتٌ فِي قوله تعالى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ} وَكَذَا الْمَسْجِدُ فِي قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وَكَذَا بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْتُ الْحَمَامِ، وَلَكِنْ إذَا أُطْلِقَ الْبَيْتُ فِي الْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً فَدَخَلَ الدِّهْلِيزُ إذَا كَانَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يُبَاتُ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ يُعْتَادُ بَيْتُوتَةً لِلضُّيُوفِ فِي بَعْضِ الْقُرَى وَفِي الْمُدُنِ يَبِيتُ فِيهِ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَحْنَثُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ صَارَ دَاخِلًا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ وَلَهُ سِعَةٌ يَصْلُحُ لِلْمَبِيتِ مُسَقَّفٌ يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ، وَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ بِالصُّفَّةِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَرْبَعُ حَوَائِطَ كَمَا هِيَ صِفَافُ الْكُوفَةِ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُسَقَّفًا كَمَا هِيَ صِفَافُ دِيَارِنَا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مُفَتَّحه وَاسِعٌ، وَكَذَا الظُّلَّةُ إذَا كَانَ مَعْنَاهَا مَا هُوَ دَاخِلُ الْبَابِ مُسَقَّفًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَابَاطًا وَهُوَ مَا عَلَى ظَاهِرِ الْبَابِ فِي الشَّارِعِ مِنْ سَقْفٍ لَهُ جُذُوعٌ أَطْرَافُهَا عَلَى جِدَارِ الْبَابِ وَأَطْرَافُهَا الْأُخْرَى عَلَى جِدَارِ الْجَارِ الْمُقَابِلِ لَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ السَّقْفَ لَيْسَ شَرْطًا فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ فَيَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدِّهْلِيزُ مُسَقَّفًا.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، يَقول دَارٌ عَامِرَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَيُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ وَدَارٌ غَيْرُ عَامِرَةٍ فِي الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ) قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ** أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ

وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا ** عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

إلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ** وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

إذَا كَانَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْجَبَلِ بِحَيْثُ يُسْنَدُ إلَيْهِ: أَيْ يُصْعَدُ لَمْ يَضُرَّهَا السَّيْلُ، وَأَقْوَتْ أَقْفَرَتْ، وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ بِالْبَاءِ السَّالِفُ الْمَاضِي، وَالْأَبَدُ الدَّهْرُ: أَيْ طَالَ عَلَيْهَا مَاضِي الزَّمَانِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ خَرَابِهَا.
وَأُصَيْلَانًا تَصْغِيرٌ جَمْعُ أَصِيلٍ أُصْلَانٌ كَبَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ وَهُوَ عَشِيَّةُ النَّهَارِ وَقَدْ تُبْدَلُ نُونُهُ لَامًا فَيُقَالُ أُصَيْلَالٌ، وَإِنَّمَا صَغَّرَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِصَرِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ لِلْمُسَاءَلَةِ.
وَهَذَا السُّؤَالُ تَوَجُّعٌ وَتَحَسُّرٌ، وَعَيَّتْ جَوَابًا عَجَزَتْ.
يُقَالُ فِي تَعَبِ الْبَدَنِ إعْيَاءٌ وَالْفِعْلُ أَعْيَا وَفِي كَلَامِ اللِّسَانِ عِيٌّ.
وَرُئِيَ فَاضِلٌ قَادِمًا إلَى الْمَدِينَةِ مَاشِيًا فَقِيلَ لَهُ مَوْلَانَا عَيَّ أَمْ أَعْيَا؟ فَقَالَ بَلْ أُعْيِيت، فَوَضْعُ أَعْيَتْ جَوَابًا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ مَكَانَ عَيَّتْ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ.
وَالْأَوَارِي جَمْعُ آرِيِّ وَهِيَ مَحَابِسُ الْخَيْلِ وَمَرَابِطُهَا، وَاللَّأْيُ الْبُطْءُ: أَيْ تَبَيُّنِي لَهَا بِبُطْءٍ فَاسْتَلْزَمَ تَعَبًا، فَمَنْ فَسَّرَ اللَّأْيَ بِالشِّدَّةِ فَهُوَ بِاللَّازِمِ، فَإِنَّ الْبُطْءَ فِي التَّبَيُّنِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَعَبٍ فِيهِ.
وَالنُّؤْيُ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ يُجْعَلُ حَوْلَ الْخِبَاءِ لِمَنْعِ السَّيْلِ مِنْ دُخُولِهِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ حَفِيرَةٌ غَلَطٌ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ عُمْقُ الْحَفِيرَةِ حَتَّى تَمْنَعَ السَّيْلَ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِئْرًا امْتَلَأَتْ فِي لَحْظَةٍ وَفَاضَتْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَلِذَا قَالَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَهُ:
رَدَّتْ عَلَيْهِ أَقَاصِيَهُ وَلِيدَةٌ ** ضَرْبَ الْوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ فِي الثَّأَدِ

يَعْنِي رَدَّتْ الْوَلِيدَةُ وَهِيَ الْأَمَةُ الشَّابَّةُ مَا تَبَاعَدَ مِنْ النُّؤْىِ بِسَبَبِ تَهَدُّمِهِ عَلَيْهِ بِضَرْبِ الْمِسْحَاةِ فِي الثَّأَدِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّدِيَّةُ.
قَالَ الْأَعْلَمُ: وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَأَرَادَ بِالْمَظْلُومَةِ الْأَرْضَ الَّتِي لَمْ تُمْطَرْ، وَالْجَلَدُ الصُّلْبَةُ، فَيَكُونُ النُّؤْيُ وَالْوَتَدُ أَشَدَّ ثَبَاتًا فِيهَا وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
يَا دَارَ مَاوِيَّةَ بِالْحَائِلِ ** فَالسَّهَبِ فَالْخَبَّتَيْنِ مِنْ عَاقِلِ

صُمَّ صَدَاهَا وَعَفَا رَسْمُهَا ** وَاسْتَعْجَمَتْ عَنْ مَنْطِقِ السَّائِلِ

يُرِيدُ أَنَّهَا مُقْفِرَةٌ لَا أَنِيسَ بِهَا فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا أَحَدَ يَتَكَلَّمُ فَيُجِيبُهُ الصَّدَى.
وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِابْنَةِ الْجَبَلِ.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْته فَشَجَانِي ** كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ يَمَانِي

دِيَارٌ لِهِنْدٍ وَالرَّبَابُ وَفَرْنَنِي ** لَيَالِينَا بِالنَّعْفِ مِنْ بَدَلَانِي

يُرِيدُ أَنَّهَا دَرَسَتْ وَخَفِيَتْ الْآثَارُ كَخَفَاءِ خَطِّ الْكِتَابِ وَدِقَّتِهِ إذَا كَانَ فِي عَسِيبٍ يَمَانٍ وَكَانَ أَهْلُ الْيُمْنِ يَكْتُبُونَ عُهُودَهُمْ فِي عَسِيبِ النَّخْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْعَارُ وَمَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً تَشْهَدُ بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لِلْعَرْصَةِ لَيْسَ غَيْرُ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذِهِ الْأَشْعَارِ لَا يُرِيدُونَ بِالِاسْمِ إلَّا الْعَرْصَةَ فَقَطْ فَإِنَّ هَذِهِ الدِّيَارَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنَاءٌ أَصْلًا بَلْ هِيَ عَرَصَاتٌ مَنْزُولَاتٌ إنَّمَا يَضَعُونَ فِيهَا الْأَخْبِيَةَ لَا أَبْنِيَةَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ فَصَحَّ أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ فِيهَا كَوْنُهَا قَدْ نَزَلَتْ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْمُدُنِ.
لَا يُقَالُ إلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ فِيهَا.
وَلَوْ انْهَدَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُهَا قِيلَ دَارٌ خَرَابٌ فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ جُزْءَ الْمَفْهُومِ لَهَا، فَأَمَّا إذَا مُحِيَتْ الْأَبْنِيَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَعَادَتْ سَاحَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الدَّارِ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا كَهَذِهِ دَارُ فُلَانٍ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، فَالْحَقِيقَةُ أَنْ يُقَالَ كَانَتْ دَارًا، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً بِأَنْ صَارَتْ لِأَبْنَاءِ بِمَا لَا يَحْنَثُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُقَابِلِهِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْمُنَكَّرِ فِي الْحُكْمِ إذَا تَوَارَدَ حُكْمُهُمَا عَلَى مَحَلٍّ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَ بَعْدَمَا زَالَتْ بَعْضُ حِيطَانِهَا فَهَذِهِ دَارٌ خَرِبَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي الْمُنَكَّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُفَارَقَةُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فِيهَا يَعْنِي مُعْتَبَرًا فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ لِأَنَّ ذَاتَه تَتَعَرَّفُ بِالْإِشَارَةِ فَوْقَ مَا تَتَعَرَّفُ بِالْوَصْفِ، وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لَهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، (وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَارًا لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمَ الدَّارِيَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى فَدَخَلَهَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَلَوْ بُنِيَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بُنِيَتْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ دَارًا) وَكَذَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ أَوْ جُعِلَتْ نَهْرًا فَدَخَلَهُ لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ الْمَبْنِيُّ ثَانِيًا مِنْ الْحَمَّامِ وَمَا مَعَهُ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمُ الدَّارِيَّةِ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَكَذَا إذَا بَنَى دَارًا بَعْدَمَا انْهَدَمَ مَا بُنِيَ ثَانِيًا مِنْ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا.
وَيَرِدُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الْبِنَاءَ إنْ كَانَ جُزْءَ مَفْهُومِ الدَّارِ عُرْفًا فَعَدَمُ الْحِنْثِ إذَا زَالَ فِي الْمُنَكَّرِ حَقٌّ لَكِنَّ ثُبُوتَ الْحِنْثِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهَا بَعْدَمَا صَارَتْ صَحْرَاءَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِشَارَةِ تُعَيِّنُ الذَّاتَ إنَّمَا يَقْتَضِي تَعَيُّنُ هَذَا الْبِنَاءِ مَعَ السَّاحَةِ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ وَفْد انْتَفَى، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَبُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ الثَّانِيَ لَيْسَ عَيْنَ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ خِلَافُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحَلِفُ إذَا وَقَعَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَقَعَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ فَيَحْنَثُ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا وَعُمْرًا أَوْ أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ كَوْنُ الْعَرْصَةِ بُنِيَتْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِي الْمُنَكَّرِ فِيمَا إذَا دَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ لِوُجُودِ تَمَامِ الْمُسَمَّى.

متن الهداية:
(وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ) لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ (وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ قَدْ زَالَ بِالِانْهِدَامِ لِزَوَالِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ الْبِنَاءُ الَّذِي يُبَاتُ فِيهِ، بِخِلَافِ الدَّارِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى دَارًا وَلَا بِنَاءَ فِيهَا، فَلَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَزَالَ السَّقْفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ، وَهَذَا يُفِيدُك أَنَّ ذِكْرَ السَّقْفِ فِي الدِّهْلِيزِ مِنْ قولهِ وَهُوَ مُسَقَّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِلْبَيْتُوتَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْبَيْتُ لَا يَلْزَمُ فِي مَفْهُومِهِ السَّقْفُ فَقَدْ تَكُونُ مُسَقَّفًا وَهُوَ الْبَيْتُ الشِّتْوِيُّ وَغَيْرُ مُسَقَّفٍ وَهُوَ الصَّيْفِيُّ (وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ) وَهَذَا الْمَبْنِيُّ غَيْرُ الْبَيْتِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ دُخُولَهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتَ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا يَحْنَثُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ) لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ.
متن الهداية:
قَالَ: (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا) وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ (وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ مِنْ الدَّارِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا) مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ مِنْ الْبَابِ بِأَنْ ظَفِرَ مِنْ سَطْحٍ إلَى سَطْحِهَا (حَنِثَ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ، أَلَّا يُرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ) فَلَوْ عُدَّ السَّطْحُ خَارِجًا فَسَدَ.
وَقَدْ يُقَالُ الْمَبْنَى مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ فَجَازَ كَوْنُ بَعْضِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ خَارِجًا فِي الْعُرْفِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ فِنَاءَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى جَازَ اقْتِدَاءُ مَنْ فِيهِ بِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَارِجٌ فَالْأَقْرَبُ مَا قِيلَ الدَّارُ عِبَارَةٌ عَمَّا أَحَاطَتْ بِهِ الدَّائِرَةُ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسَطْحِهَا، وَهَذَا يَتِمُّ إذَا كَانَ السَّطْحُ بِحَضِيرٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضِيرٌ فَلَيْسَ هُوَ إلَّا فِي هَوَاءِ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفٌ أَنَّهُ يُقَالُ إنَّهُ دَاخِلُ الدَّارِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ السَّطْحَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الدَّارِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا حِسًّا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ فِي الْعُرْفِ دَخَلَ الدَّارَ بَلْ لَا يَتَعَلَّقُ لَفْظُ دَخَلَ إلَّا بِجَوْفِ الدَّارِ حَتَّى صَحَّ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَكِنْ صَعِدَ السَّطْحَ مِنْ خَارِجٍ بِحَبْلٍ، وَهَذَا فِي عُرْفِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَ اللِّسَانِ فَطَابَقَ عُرْفُ الْعَجَمِ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ قول الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنْ يُحْمَلَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْحِنْثِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِلسَّطْحِ حَضِيرٌ وَجَوَابُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِقولهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَعْنِي عُرْفَ الْعَجَمِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضِيرٌ اتَّجَهَ وَهَذَا اعْتِقَادِيٌّ.
قولهُ: (وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ) أَيْ بِالْوُقُوفِ عَلَى السَّطْحِ.
وَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِالصُّعُودِ عَلَى شَجَرَةٍ دَاخِلَهَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَاخِلَ الدَّارِ مَا لَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهَا، وَكَذَا إذَا قَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْهَا.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزهَا) يَعْنِي يَحْنَثُ وَيَجِبُ فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوَائِطُ وَهُوَ مُسَقَّفٌ.
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ السَّقْفَ لَيْسَ لَازِمًا فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ بَلْ فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ الشِّتْوِيِّ، قولهُ وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ وَهُوَ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ عَنْ الْبَابِ فِي الدَّارِ. وَلَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ فَأَخْرَجَ إحْدَاهُمَا أَوْ رَأْسَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلُ عَائِشَةَ رَأْسَهُ لِتُصْلِحَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي بَيْتِهَا لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِإِحْدَاهُمَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا.
وَفِي هَذَا خِلَافٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَامَتْ عَلَى أَسْقُفَّةِ الْبَابِ وَبَعْضُ قَدَمِهَا بِحَالٍ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ دَاخِلًا وَبَعْضُهُ الْبَاقِي خَارِجًا إنْ كَانَ اعْتِمَادُهَا عَلَى النِّصْفِ الْخَارِجِ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى النِّصْفِ الدَّاخِلِ أَوْ عَلَيْهِمَا لَا يَحْنَثُ.
قَالَ:
وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ أَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّيْخَانِ الْإِمَامَانِ شَمْسَا الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَالسَّرْخَسِيُّ.
هَذَا إذَا كَانَ يَدْخُلُ قَائِمًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَدْخُلُ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ أَوْ جَنْبِهِ فَقَدْ خَرَجَ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُ دَاخِلَ الدَّارِ إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ دَاخِلَ الدَّارِ يَصِيرُ دَاخِلًا، وَإِنْ كَانَ سَاقَاهُ خَارِجًا وَلَوْ تَنَاوَلَ بِيَدِهِ شَيْئًا مِنْ دَاخِلٍ لَا يَحْنَثُ.
فُرُوعٌ:
حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَأُدْخِلَ مُكْرَهًا: أَيْ مَحْمُولًا لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ أُدْخِلَ وَهُوَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنْ رَضِيَ بِقَلْبِهِ اخْتَلَفُوا، وَالْأَصَحُّ لَا يَحْنَثُ، فَلَوْ خَرَجَ بَعْدَ دُخُولِهِ مُكْرَهًا: أَيْ مَحْمُولًا ثُمَّ دَخَلَ هَلْ يَحْنَثُ اخْتَلَفُوا.
قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ: لَا يَحْنَثُ، وَهَكَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ.
وَلَوْ اشْتَدَّ فِي الْمَشْيِ فَوَقَعَ فِي الْبَابِ يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ بَيْتًا مِنْهَا قَدْ أُشْرِعَ إلَى السِّكَّةِ حَنِثَ إذَا كَانَ أَحَدُ بَابَيْهِ فِي السِّكَّةِ وَالْآخَرُ فِي الدَّارِ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي عُلُوِّهَا عَلَى الطَّرِيقِ وَلَهُ بَابٌ فِي الدَّارِ، وَكَذَا الْكَنِيفُ إذَا كَانَ بَابُهُ فِي الدَّارِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَلْخَ أَوْ مَدِينَةَ كَذَا فَعَلَى الْعُمْرَانِ، بِخِلَافِ كُورَةِ بُخَارَى أَوْ رُسْتَاقَ، كَذَا إذَا دَخَلَ أَرْضَهَا حَنِثَ.
وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا أَنَّ كُورَةَ بُخَارَى عَلَى الْعُمْرَانِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ كُورَةَ مِصْرَ وَهُوَ بِالشَّامِّ فَبِدُخُولِ الْعَرِيشِ يَحْنَثُ، وَعَلَى الْحَمْلِ عَلَى الْعُمْرَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَمَرَّ بِهَا فِي سَفِينَةٍ بِدِجْلَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الْفُرَاتَ فَدَخَلَتْ سَفِينَتُهُ فِي الْفُرَاتِ أَوْ دَخَلَ جِسْرًا لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ قَالَ إنْ وَضَعْت قَدَمَيَّ فِي دَارِ فُلَانٍ فَكَذَا فَوَضَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فِيهَا لَا يَحْنَثُ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ هُنَا مَجَازٌ عَنْ الدُّخُولِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْحَلِفِ لَا يَدْخُلُ بِوَضْعِ إحْدَى رِجْلَيْهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ ثُمَّ بُنِيَ مَسْجِدًا فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ كَالدَّارِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ سِكَّةَ فُلَانٍ فَدَخَلَ مَسْجِدًا فِيهَا وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَا يَحْنَثُ فِي الْمُخْتَارِ.
قَالَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَا مَسْجِدَ بَابٍ فِي السِّكَّةِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَيْتًا فِي طَرِيقِ السِّكَّةِ إنْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِيهَا حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ ظُهْرُهُ فِيهَا وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابَانِ بَابٌ فِيهَا وَبَابٌ فِي غَيْرِهَا حَنِثَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ بَابِهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ لَهَا بَابٌ حِينَ حَلَفَ فَجُهِلَ لَهَا بَابٌ آخَرُ فَدَخَلَ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى بَابٍ مَنْسُوبٌ إلَيْهَا فَيَسْتَوِي الْقَدِيمُ وَالْحَادِثُ إلَّا إنْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْبَابَ فِي حَلِفِهِ، وَلَوْ نَوَاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فِي حَلِفِهِ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ قَنَاةً حَتَّى صَارَ تَحْتَهَا إنْ كَانَ لَهَا مِفْتَحٌ فِي الدَّارِ يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ حَنِثَ إذَا وَصَلَ هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِإِضَاءَةِ الْقَنَاةِ لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْفُسْطَاطَ فَقُوِّضَ وَضُرِبَ فِي مَكَانٍ آخَرَ فَدَخَلَهُ حَنِثَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ حَتَّى يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ) اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ) بِالْمُكْثِ فِيهَا أَيَّامًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْقُعُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى يَدْخُلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالْمُكْثِ وَإِنْ قَصُرَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ حَتَّى صَحَّتْ إرَادَتُهُ بِهِ: أَعْنِي لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَنَوَى بِهِ الْمُكْثَ وَالْقَرَارَ فِيهَا صَحَّ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ ابْتِدَاءً لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ) حَقِيقَةً لُغَةً وَعُرْفًا فِي الِانْفِصَالِ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ وَلَا دَوَامَ لِذَلِكَ، فَلَيْسَ الدَّوَامُ مَفْهُومَهُ وَلَا جُزْءَ مَفْهُومِهِ، وَكَوْنُهُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَجَازًا لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِلدُّخُولِ عَادَةً وَإِنَّ قَلَّ إذْ كَانَ الدُّخُولُ يُرَادُ لِلْمُكْثِ لَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ بِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِلَّفْظِ بَلْ الْحَقِيقِيِّ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّهَا غَدًا وَهُوَ فِيهَا فَمَكَثَ حَتَّى مَضَى الْغَدُ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا فِيهِ إذْ لَمْ يَخْرُجْ، وَلَوْ نَوَى بِالدُّخُولِ الْإِقَامَةَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَعَلَى هَذَا قَدْ يُقَالُ لَيْسَ هُنَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْكَائِنَ فِي مُقَابَلَتِهِ هُوَ مَا يَتَبَادَرُ وَيَتَسَارَعُ إلَى الذِّهْنِ، وَلَا يَتَسَارَعُ لِأَحَدٍ مِنْ لَفْظِ أَدْخُلُ مَعْنَى أَسْتَمِرُّ مُقِيمًا فَيُقْضَى الْعَجَبُ مِنْ زُفَرَ بِقولهِ بِالْحِنْثِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَقول زُفَرَ.
وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَهُوَ خَارِجٌ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ ثُمَّ يَخْرُجَ، وَكَذَا لَا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ وَلَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَاسْتَدَامَ النِّكَاحُ وَالطَّهَارَةُ لَا يَحْنَثُ.
بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقولهِ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ، وَكَذَا لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَمَكَثَ قَلِيلًا حَنِثَ، فَلَوْ نَزَعَ الثَّوْبَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ نَزَلَ أَوْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لِزُفَرَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحِنْثُ بِمُكْثِهِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَمَكَثَتْ سَاعَةً يُمْكِنُهَا النُّزُولُ فِيهَا طَلُقَتْ، فَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ طَلُقَتْ أُخْرَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَرَكِبَ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ، لِأَنَّ لَفْظَ رَكِبْت لِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَالِفُ رَاكِبًا يُرَادُ بِهِ إنْشَاءَ الرُّكُوبِ فَلَا يَحْنَثُ بِالِاسْتِمْرَارِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ حَلِفِ الرَّاكِبِ لَا يَرْكَبُ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ وَمَا فِي حُكْمِهِ عُرْفًا، وَاسْتُوْضِحَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَهَا دَوَامٌ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهَا بِقولهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ فَيُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا وَسَكَنْت شَهْرًا.
بِخِلَافِ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ لِنَفْسِ الدُّخُولِ، بَلْ يُقَالُ فِي مَجَارِي الْكَلَامِ دَخَلْت عَلَيْهِ يَوْمًا مُرَادًا بِهِ إمَّا مُجَرَّدُ بَيَانِ الظَّرْفِيَّةِ لَا التَّقْدِيرُ، وَإِمَّا مُطْلَقُ الْوَقْتِ إذَا كَانَ لَا يَمْتَدُّ فَيُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ.
وَذَلِكَ أَعْنِي عَدَمَ ضَرْبِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا لِلدُّخُولِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالٍ يَصِيرُ بِهِ مُتَكَرِّرًا لِيَحْنَثَ بِحُدُوثِ الْمُتَكَرِّرَاتِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْبَقَاءَ.
وَهَذِهِ عَلَى عَكْسِهِ يَنْعَقِدُ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ.
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَقَطْ فَمُحْتَمَلُهُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بِقولهِ لَا أَسْكُنُ وَأَرْكَبُ وَأَلْبَسُ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ فَقَطْ صَدَقَ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِاسْتِمْرَارِهِ سَاكِنًا وَرَاكِبًا.
وَفَرَّعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ لَهَا تَجَدُّدُ أَمْثَالٍ يَصِيرُ بِهَا فِي مَعْنَى الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَهُوَ لَابِسٌ لَيَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ غَدًا وَاسْتَمَرَّ لَابِسَهُ حَتَّى مَضَى الْغَدُ لَا يَحْنَثُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ فِي الْغَدِ.
ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يَحْنَثُ بِتَأْخِيرِ سَاعَةٍ إذَا أَمْكَنَهُ النَّقْلُ فِيهَا.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ بِأَنْ كَانَ بِعُذْرِ اللَّيْلِ وَخَوْفِ اللِّصِّ أَوْ مَنْعِ ذِي السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمِ مَوْضِعٍ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ أَوْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَتْحَهُ أَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ الْمَتَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْقُلُهَا لَا يَحْنَثُ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِالْعَدَمِ لِلْعُذْرِ، وَأَوْرَدَ مَا ذَكَرَ الْفَضْلِيُّ فِيمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَهِيَ طَالِقٌ فَقُيِّدَ أَوْ مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ حَنِثَ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَفِي مَنْزِلِ أَبِيهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَطَالِقٌ فَمَنَعَهَا أَبُوهَا حَنِثَ.
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَدَمًا فَيَحْنَثُ بِتَحَقُّقِهِ كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَكَوْنُهُ فِعْلًا فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَالسُّكْنَى لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارِيُّ وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهِ فَيَصِيرُ مَسْكَنًا لَا سَاكِنًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي فُرُوعٍ وَنُوضِحُ الْوَجْهَ بِأَتَمَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَا لَوْ بَقِيَ أَيَّامًا فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ وَتَرَكَ الْأَمْتِعَةَ وَالْأَهْلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَنْزِلِ مِنْ عَمَلِ النَّقْلِ وَصَارَ مُدَّةُ الطَّلَبِ مُسْتَثْنَاةً إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا إذَا خَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلِ.
وَلَوْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِنْ كَانَتْ النَّقَلَاتُ لَا تَفْتُرُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَنْقُلُ مَتَاعَهُ فِي يَوْمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ النَّقْلُ بِأَسْرَعِ الْوُجُوهِ بَلْ بِقَدْرِ مَا يُسَمَّى نَاقِلًا فِي الْعُرْفِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قول زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْحِنْثَ قَدْ وُجِدَ بِمَا وُجِدَ مِنْ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ.
وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ لَا لِلْحِنْثِ ابْتِدَاءً وَإِنْ وَجَبَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَضْعًا الْبِرَّ وَجَبَ اسْتِثْنَاءُ مِقْدَارِ مَا يُحَقِّقُهُ مِنْ الزَّمَانِ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ النُّزُولُ وَالنَّقْلَةُ وَالنَّزْعُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَلَّ.
وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَانُ تَحْقِيقِهِ (فَإِنْ لَبِثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ يُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا بِخِلَافِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ.
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ إلَيْهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنَهَا بِبَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا عُرْفًا، فَإِنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ وَيَقول أَسْكُنُ سِكَّةَ كَذَا، وَالْبَيْتُ وَالْمَحَلَّةُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ.
وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ عُرْفًا.
بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى قَدْ ثَبَتَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
يُعْتَبَرُ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: يُعْتَبَرُ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا وَرَاء ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى.
قَالُوا: هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالُوا لَا يَبَرُّ، دَلِيلُهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ هُوَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ وَأَهْلَهُ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ حَنِثَ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ الَّتِي قَبْلَهَا، لَمَّا كَانَ بِالْأَخْذِ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ يَبَرُّ ذَكَرَ مَعْنَى النَّقْلَةِ الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ الْبِرُّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَقِلًا مِنْ الدَّارِ مِنْ نَقْلِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَكَذَا الْحَلِفُ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ فِي هَذِهِ الْمُحَلَّةِ أَوْ السِّكَّةِ لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ أَبَدًا حَنِثَ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى عَزْمِ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَنْقُلُهُمْ لِأَنَّهُ يُعَدُّ الْمُتَأَهِّلُ سَاكِنًا بِمَحِلِّ سُكْنَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ عُرْفًا.
وَاسْتَشْهَدَ لِلْعُرْفِ بِأَنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا لَيْلًا أَوْ بَعْضَ اللَّيْلِ أَيْضًا وَيَقول أَنَا سَاكِنٌ فِي مُحَلَّةِ كَذَا وَذَلِكَ لِقَرَارِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِهَا، وَبِهَذَا الْقول قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ التَّحْوِيلِ.
قِيلَ وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ بِخِلَافِهَا وَهُوَ إذَا خَرَجَ بِنِيَّةِ عَدَمِ الْعَوْدِ فَقَدْ انْتَقَلَ، إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ بِنَفْسِهِ انْتَقَلَ.
وَعِنْدَنَا الْعِبْرَةُ لِلْعَادَةِ لِطُرُوِّهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَالْحَالِفُ يُرِيدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ بِمَكَانٍ بِبَلْدَةٍ هُوَ بِهَا فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ فَبَنَى اللَّفْظَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مُسْتَقِلًّا بِسُكْنَاهُ قَائِمًا عَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ سُكْنَاهُ تَبَعًا كَابْنٍ كَبِيرٍ سَاكِنٍ مَعَ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَةٍ مَعَ زَوْجِهَا.
فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْكُنُ هَذِهِ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَهِيَ زَوْجَهَا وَمَالَهَا لَا يَحْنَثُ، وَقَيَّدَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ حَلِفَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَلَوْ عَقَدَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ إذَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِسُكْنَاهُ.
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ لِلْعُرْفِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّوقِيَّ إنَّمَا يَقول أَنَا سَاكِنٌ فِي مُحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْعَوْدِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ السُّكْنَى فِيمَا إذَا خَرَجَ عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ كَمَا هِيَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، فَالْوَجْهُ تَرْكُ خُصُوصِ هَذَا الشَّاهِدِ وَيَدَّعِي أَنَّ الْعُرْفَ عَلَى أَنَّهُ سَاكِنٌ مَا لَمْ يَنْقُلْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ حَتَّى إنَّهُ يُقَالُ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ فُلَانٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ مَسْكَنِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ بَعْدُ.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ إلَى آخِرِهِ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَمِثْلُهُ الْبَيْتُ وَالسِّكَّةُ وَالْمُحَلَّةُ وَهِيَ تُسَمَّى فِي عُرْفِنَا الْجَارَةُ.
فَلَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذَا الْمِصْرَ أَوْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ: لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الْمِصْرِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ تَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ عُرْفًا فَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَهْلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَمَالُهُ وَهُوَ بِنَفْسِهِ قَاطِنٌ بِالْكُوفَةِ هُوَ سَاكِنٌ بِالْبَصْرَةِ (وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ الْبَلْدَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ فَانْتَقَلَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فِي الْأُولَى لَا يَحْنَثُ، وَقولهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ قَالَ هِيَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ الدَّارَ فَيَحْنَثُ.
قولهُ: (ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بُدَّ) فِي كَوْنِهِ انْتَقَلَ مِنْ الدَّارِ وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا ذَكَرْنَا (مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ وَنَحْوُهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى مِنْ الْحَالِفِ تَثْبُتُ بِالْكُلِّ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ) فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى جَعَلَ صِفَةَ السُّكُونِ فِي الْعَصِيرِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا، وَبَقَاءُ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ مِنَّا فِي بَلْدَةٍ ارْتَدَّ أَهْلُهَا مَانِعًا مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي يَتَأَتَّى بِهِ السُّكْنَى، وَأَمَّا بَقَاءُ مِكْنَسَةٍ أَوْ وَتَدٍ أَوْ قِطْعَةِ حَصِيرٍ لَا يَبْقَى فِيهَا سَاكِنًا فَلَا يَحْنَثُ.
وَحَقِيقَةُ وَجْهِ دَفْعِهِ أَنَّ قولهُ السُّكْنَى تَثْبُتُ بِالْكُلِّ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْكُلِّ هُوَ الْعِلَّةُ فِي سُكْنَاهُ مَعَ انْقِطَاعِ نَفْسِهِ إلَى الْقَرَارِ فِي الْمَكَانِ مَنَعْنَاهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ انْتَفَتْ السُّكْنَى فَعُلِمَ أَنَّ السُّكْنَى تَثْبُتُ مَعَ الْكُلِّ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ فَإِنَّمَا هِيَ مَنُوطَةٌ فِي الْعُرْفِ بِقَرَارِهِ عَلَى وَجْهِ الِانْقِطَاعِ إلَيْهِ مَعَ مَا يَتَأَتَّى بِهِ دَفْعُ الْحَاجَاتِ الْكَائِنَةِ فِي السُّكْنَى فَكَانَتْ السُّكْنَى ثَابِتَةً مَعَ الْكُلِّ وَبِدُونِ الْكُلِّ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ يَعُدُّ مَنْ خَرَجَ لَا يُرِيدُ الْعَوْدَ وَنَقَلَ أَهْلَهُ وَبَعْضُ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَرَكَهُ لِتَفَاهَتِهِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ تَارِكًا لِسُكْنَى ذَلِكَ الْمَكَانِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُ فِي الْبِرِّ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ) بِأَنْ يَغْفُلَ عَنْ شَيْءٍ كَإِبْرَةٍ فِي شَقِّ حَائِطٍ أَوْ يَتَعَسَّرُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ فِي الْبِرِّ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ) أَيْ سُكْنَاهُ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ (لِأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى) إذْ لَيْسَ مِنْ حَاجَتِهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (قَالُوا: هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ فِي نَفْيِ الْحِنْثِ) عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَصَاحِبِ الْمُحِيطِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَالْكَافِي عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَدَارَ هُنَا لَيْسَ عَلَى نَقْلِ الْكُلِّ لِيَقُومَ الْأَكْثَرُ مَقَامَهُ بَلْ عَلَى الْعُرْفِ فِي أَنَّهُ سَاكِنٌ أَوْ لَا.
وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ تَرْكِ الْمَكَانِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَنَقَلَ مِنْ أَمْتِعَتِهِ فِيهِ مَا يَقُومُ بِهِ أَمْرُ سُكْنَاهُ وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ قَفْلِ الْبَاقِي يُقَالُ لَيْسَ سَاكِنًا فِي هَذَا الْمَكَانِ بَلْ انْتَقَلَ عَنْهُ وَسَكَنَ فِي الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ أَمَّا الْأَهْلُ فَلَا بُدَّ فِي الْبِرِّ مِنْ نَقْلِهِمْ كُلِّهِمْ اتِّفَاقًا.
قولهُ: (وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ حَتَّى يَبَرَّ) بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبَرَّ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا قِيلَ يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ نَقْلُ الْمُصَنِّفِ اسْتِدْلَالًا بِمَا فِي الزِّيَادَاتِ.
كُوفِيٌّ نَقَلَ عِيَالَهُ إلَى مَكَّةَ لِيَتَوَطَّنَ فَلَمَّا تَوَطَّنَ بِمَكَّةَ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِمَكَّةَ، وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَى مَكَّةَ صَلَّى بِالْكُوفَةِ مَارًّا عَلَيْهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ بِالْكُوفَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ، فَكَذَا هُنَا يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ.
وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ سَلَّمَ دَارِهِ بِإِجَارَةٍ أَوْ رَدَّ الْمُسْتَأْجَرَةَ إلَى الْمُؤَاجِرِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ دَارًا أُخْرَى، وَإِطْلَاقُ عَدَمِ الْحِنْثِ أَوْجَهُ، وَكَوْنُ وَطَنِهِ بَاقِيًا فِي حَقِّ إتْمَامِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَسْتَوْطِنْ غَيْرَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَسْمِيَتَهُ سَاكِنًا عُرْفًا بِذَلِكَ الْمَكَانِ بَلْ يُقْطَعُ مِنْ الْعُرْفِ فِيمَنْ نَقَلَ أَهْلَهُ وَأَمْتِعَتَهُ وَخَرَجَ مُسَافِرًا أَنْ لَا يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ سَاكِنٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَلْ يُقَالُ فِيهِ حَالَ السَّفَرِ انْتَقَلَ عَنْ سُكْنَى هَذَا الْمَكَانِ وَهُوَ قَاصِدٌ سُكْنَى كَذَا.
وَإِذَا لَمْ يَتَحَرَّرْ لَهُ قَصْدُ مَكَان مُعَيَّنٍ قِيلَ هُوَ الْآنَ غَيْرُ سَاكِنٍ فِي مَكَان حَتَّى يُنْظَرَ أَيْنَ يَسْكُنُ، وَإِذَا ثَبَتَ نَفْيُ تِلْكَ السُّكْنَى ثَبَتَ الْبِرُّ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ):

قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ (وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ (وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ) فِي الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ وَالْإِتْيَانِ وَالرُّكُوبِ):
الْخُرُوجُ مُقَابِلٌ لِلدُّخُولِ فَنَاسَبَ إعْقَابُهُ بِهِ، وَيَعْقُبُ الْخُرُوجَ الرُّكُوبُ ثُمَّ الرُّجُوعُ وَهُوَ الْإِتْيَانُ، فَلَمَّا ارْتَبَطَتْ أَوْرَدَهَا فِي بَابِ الْخُرُوجِ.
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ) أَوْ الدَّارِ أَوْ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَحَمَلَهُ فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ بِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ الْخُرُوجُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْحَالِفِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلنَّقْلِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِخْرَاجِ مُكْرَهًا هُنَا أَنْ يَحْمِلَهُ وَيُخْرِجَهُ كَارِهًا لِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَعَّدَهُ حَتَّى يَفْعَلَ.
فَإِنَّهُ إذَا تَوَعَّدَهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ حَنِثَ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الْفِعْلَ عِنْدَنَا، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى أَكَلَهُ حَنِثَ.
وَلَوْ أَوْجَرَ فِي حَلْقِهِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ.
وَقِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالْآمِرِ.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الِانْتِقَالَ بِالْأَمْرِ لَا بِمُجَرَّدِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ الْأَمْرُ وَلَا الْفِعْلُ مِنْهُ فَلَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهِ.
وَلَوْ قِيلَ قَصْرُ الِانْتِقَالِ عَلَى الْآمِرِ مَحِلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّ مَنْ يَقول يَحْنَثُ يَجْعَلُ الرِّضَا أَيْضًا فَلَا دَفْعَ بِفَرْعٍ اتِّفَاقِيٍّ، وَهُوَ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُتْلِفَ مَالَهُ فَفَعَلَ لَا يَضْمَنُ الْمُتْلِفُ لِانْتِسَابِ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ بِالْأَمْرِ، فَلَوْ أَتْلَفَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ يَنْظُرُ فَلَمْ يَنْهَهُ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِأَحَدٍ بَيْنَ كَوْنِهِ رَاضِيًا أَوْ لَا، ثُمَّ إذَا لَمْ يَحْنَثْ بِإِخْرَاجِهِ مَحْمُولًا لِإِنْسَانٍ أَوْ بِهُبُوبِ رِيحٍ حَمَلَتْهُ هَلْ تَنْحَلُ الْيَمِينُ؟ قَالَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ: تَنْحَلُّ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ: لَا تَنْحَلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَقَاضِي خَانْ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَحْنَثُ لِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ كَيْفَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ فَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الذِّمَّةِ.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ دَخَلَ بَعْدَ هَذَا الْإِخْرَاجِ هَلْ يَحْنَثُ؟ فَمَنْ قَالَ انْحَلَّتْ قَالَ لَا يَحْنَثُ.
وَهَذَا بَيَانُ كَوْنِهِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ.
وَمَنْ قَالَ لَمْ تَنْحَلَّ قَالَ حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَوْجُودَ خُرُوجٌ مُسْتَثْنًى، وَالْمُضِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ إلَّا إلَى جِنَازَةٍ) وَنَحْوِهِ فَخَرَجَ إلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى حَاجَاتٍ لَهُ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الْمَوْجُودَ مِنْهُ إلَى الْجِنَازَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْخُرُوجِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمُضِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الِانْفِصَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَالذَّهَابُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ عَلَى قَصْدِ مَكَّةَ وَهُوَ الشَّرْطُ، إذْ الْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقولا} وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ، وَقِيلَ هُوَ كَالْخُرُوجِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزَّوَالِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ) أَوْ دَارِ فُلَانٍ فَخَرَجَ مُرِيدًا مَكَّةَ أَوْ دَارَ فُلَانٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ حَنِثَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَقَدْ وُجِدَ بِقَصْدِ.
مَكَّةَ وَهُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَى عَدَمِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ رَجَعَ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ.
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَحْنَثَ إذَا رَجَعَ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ عِمْرَانَ مِصْرِهِ وَقَدْ قَالُوا إنَّمَا يَحْنَثُ إذَا جَاوَزَ عِمْرَانَهُ عَلَى قَصْدِهَا كَأَنَّهُ ضَمَّنَ لَفْظَ أَخْرُجُ مَعْنَى أُسَافِرُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُضِيَّ إلَيْهَا سَفَرٌ لَكِنَّ عَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُدَّةُ سَفَرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ مِنْ الدَّاخِلِ.
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا) فَخَرَجَ بِقَصْدِهَا (لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ، قَالَ تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقولا} وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذْهَبُ إلَيْهَا قِيلَ هُوَ كَالْإِتْيَانِ) فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا وَهُوَ قول نُصَيْرٍ.
قَالَ تعالى: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ} وَالْمُرَادُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَتَبْلِيغُهُ الرِّسَالَةَ (وَقِيلَ الذَّهَابُ كَالْخُرُوجِ) وَهُوَ قول مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) قَالَ تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ} أَيْ يُزِيلَهُ، فَبِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ، وَكَوْنُهُ اُسْتُعْمِلَ مُرَادًا بِهِ الْوُصُولُ فِي: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَعَ الْوُصُولِ وَمَعَ عَدَمِهِ فَيَكُونَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْخُرُوجِ بِلَا وُصُولٍ وَالْخُرُوجِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وُصُولٌ.
فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَمَّى بِمُجَرَّدِ الِانْفِصَالِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِالذَّهَابِ شَيْئًا.
وَلَوْ نَوَى بِهِ الْخُرُوجَ أَوْ الْإِتْيَانَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ.
ثُمَّ فِي الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ إلَيْهِ يُشْتَرَطُ لِلْحِنْثِ الْخُرُوجُ عَنْ قَصْدٍ.
وَفِي الْإِتْيَانِ إلَيْهِ لَا يُشْتَرَطُ الْقَصْدُ لِلْحِنْثِ.
بَلْ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ حَنِثَ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ.
كَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّ الْبِرَّ قَبْلَ ذَلِكَ مَرْجُوٌّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ) هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إذَا حَلَفَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
فَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَهَا أَوْ يُؤَقِّتَهَا بِوَقْتٍ مِثْلَ لَأَفْعَلَنَّ غَدًا أَوْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
فَفِي الْمُطْلَقَةِ مِثْلِ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا أَوْ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبِرِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَبْقَى مَا أَمْكَنَ الْبِرُّ.
وَحَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ الْيَمِينُ بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْبِرُّ بِفَوَاتِهِ لَمْ يَسْقُطْ الْيَمِينُ وَلَمْ يَلْزَمْ انْحِلَالُهَا فَتَبْقَى إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبِرِّ فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالْحِنْثِ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهَا لَيَفْعَلَنَّ وَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَمَوْتِهَا فِي الصَّحِيحِ وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ فِي الطَّلَاقِ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَحْنَثْ.
فَإِذَا قَالَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَهَذَا عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: إذَا لَمْ يَمْرَضْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهِ فَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ، وَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ دَيْنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِطَاعَةِ فِيمَا يُقَارِنُ الْفِعْلَ وَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُتَعَارَفِ.
فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَتَصِحُّ نِيَّةُ الْأَوَّلِ دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ثُمَّ قِيلَ وَتَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ) أَيْ بِاَللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ (لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ) وَصُورَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَقول امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِك غَدًا إنْ اسْتَطَعْت، وَلَا نِيَّةَ لَهُ تَصْرِفُ الِاسْتِطَاعَةَ إلَى سَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَعَرَّفُ إلَيْهِ، وَهَذَا مَا أَرَادَ بِقولهِ اسْتِطَاعَةُ الصِّحَّةِ دُونَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ بَلْ تُخْلَقُ مَعَهُ بِلَا تَأْثِيرٍ لَهَا فِيهِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ أَرَادَ هَذِهِ بِقولهِ إنْ اسْتَطَعْت صَحَّتْ إرَادَتُهَا، فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِ لِعُذْرٍ مِنْهُ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَحْنَثُ كَأَنَّهُ قَالَ لَآتِيَنك إنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى إتْيَانِي أَوْ إلَّا أَنْ لَا يَخْلُقَ إتْيَانِي، وَهُوَ إذَا لَمْ يَأْتِ لَمْ يُخْلَقْ إتْيَانُهُ وَلَا اسْتِطَاعَةُ الْإِتْيَانِ الْمُقَارِنَةُ وَإِلَّا لَأَتَى، وَإِذَا صَحَّتْ إرَادَتُهَا فَهَلْ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً أَوْ دِيَانَةً فَقَطْ؟ قِيلَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَقَطْ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ قول الرَّازِيّ، وَقِيلَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ إذَا كَانَ اسْمُ الِاسْتِطَاعَةِ يُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لَكِنْ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْقَرِينَةِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ سَلَامَةُ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةُ أَسْبَابِهِ فَصَارَ ظَاهِرًا فِيهِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِ الظَّاهِرِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ، وَمَا وَرَاءَهُ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ.
وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ غَايَةٍ فَتَنْتَهِي الْيَمِينُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ فِي كُلِّ خُرُوجٍ، وَمِثْلُهُ إنْ خَرَجَتْ إلَّا بِقِنَاعٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي قولهِ إلَّا بِإِذْنِي خُرُوجٌ مَقْرُونٌ بِالْإِذْنِ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْخُرُوجِ الْمُلْصَقِ بِالْإِذْنِ دَاخِلٌ فِي الْحَظْرِ الْعَامِّ، وَهُوَ النَّكِرَةُ الْمُؤَوَّلَةُ مِنْ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَخْرُجِي خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَطَرِيقُ إسْقَاطِ هَذَا الْإِذْنِ أَنْ يَقول كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ نَهَاهَا لَمْ يَعْمَلْ نَهْيُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَى عَمِلَ نَهْيُهُ اتِّفَاقًا فَكَذَا بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ نَهْيُهُ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بَعْدَهُ.
بِخِلَافِ النَّهْيِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِالْإِذْنِ الْعَامِّ.
وَلَوْ أَذِنَ لَهَا إذْنًا غَيْرَ مَسْمُوحٍ لَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ إذْنٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَسْمُوعِ وَغَيْرِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا سُمِّيَ إذْنًا لِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا أَوْ لِوُقُوعِهِ فِي الْإِذْنِ وَلَمْ يُوجَدْ.
ثَمَّ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى الْإِذْنِ فِي قولهِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجِينَ إلَّا بِإِذْنِي مُقَيَّدٌ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ لِمَنْ لَهُ الْمَنْعُ وَهُوَ مِثْلُ السُّلْطَانِ إذَا حَلَّفَ إنْسَانًا لَيَرْفَعَن إلَيْهِ خَبَرَ كُلِّ دَاعِرٍ فِي الْمَدِينَةِ كَانَ عَلَى مُدَّةِ وِلَايَتِهِ، فَلَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَخَرَجَتْ بِلَا إذْنٍ لَا تَطْلُقُ، وَإِنْ كَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى مُدَّةِ بَقَاءِ النِّكَاحِ.
وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلِذَا لَا يُصَدِّقُ الْقَاضِي، أَمَّا إنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
فَظَاهِرُ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ، وَأَمَّا إنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ مَرَّةً مُوجِبُ الْغَايَةِ فِي قولهِ لَا تَخْرُجِي حَتَّى آذَنَ لَك، وَبَيْنَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُمَا، فَيُسْتَعَارُ إلَّا بِإِذْنِي لِمَعْنًى حَتَّى آذَنَ وَفِي حَتَّى آذَنَ تَنْحَلُّ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُهُمْ فِي حَتَّى أَنَّهَا أَيْضًا تُوجِبُ التَّكْرَارَ.
وَاسْتَدَلَّ بِقولهِ تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}، {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} وَنَحْنُ نَقول إنْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ يُرَادُ فَلَا نِزَاعَ.
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُؤَدَّى اللَّفْظِ فَقُلْنَا لَا، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ حَتَّى آذَنَ لَك يَكُونُ قَدْ جَعَلَ النَّهْيَ عَنْ الْخُرُوجِ مُطْلَقًا مُغَيًّا بِوُجُودِ مَا هُوَ إذْنٌ.
وَبِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِذْنِ يَتَحَقَّقُ مَا هُوَ إذْنٌ فَيَتَحَقَّقُ غَايَةُ النَّهْيِ فَيَزُولُ الْمَنْعُ الْمُضَافُ إلَى اللَّفْظِ.
فَإِنْ كَانَ مَنْعٌ آخَرُ فَبِغَيْرِهِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قولهِ إلَّا بِإِذْنِي أَنَّهُ تَنْتَهِي الْيَمِينُ بِخُرْجَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا تَطْلُقُ بِالْخُرُوجِ بَعْدَهُ بِلَا إذْنٍ.
وَفِي وَجْهٍ كَقولنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَالْقَفَّالِ.
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ) وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ لُزُومُ تَكْرَارِ الْإِذْنِ فِيهِ أَيْضًا مِثْلُ إلَّا بِإِذْنِي وَهُوَ قول الْفَرَّاءِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي لِأَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا خُرُوجًا إذْنِي فَلَزِمَ إرَادَةُ الْبَاءِ فَصَارَ بِإِذْنِي.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إرَادَةِ الْبَاءِ مَحْذُوفَةً أَوْ مَا قُلْنَا مِنْ جَعْلِهَا بِمَعْنَى حَتَّى مَجَازًا: أَيْ حَتَّى آذَنَ لَك، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ كَالْأَوَّلِ.
وَعَلَى الثَّانِي يَنْعَقِدُ عَلَى إذْنٍ وَاحِدٍ.
وَإِذَا لَزِمَ فِي إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَحَدُ الْمَجَازَيْنِ وَجَبَ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا.
وَمَجَازُ غَيْرِ الْخَذْفِ أَوْلَى مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي وَصْفِ اللَّفْظِ، وَمَجَازُ الْحَذْفِ تَصَرُّفٌ فِي ذَاتِهِ بِالْإِعْدَامِ مَعَ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ، قَالَ تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَحَقَّقَ بِمَعْنَى مَا بِإِضْمَارِ الْبَاءِ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الْآيَةَ، وَالثَّابِتُ وُجُوبُ تَكْرَارِ الْإِذْنِ.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ، بَلْ وُجُوبُ التَّكْرَارِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ مَنْعَ دُخُولِ الْإِنْسَانِ بَيْتَ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ كَثِيرٌ مِثْل: {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، {وَلَا تَقولنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقولوا قولا مَعْرُوفًا}، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَسْتَقِلُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ أَوْ الْفِعْلِ مَعَ كُلِّ مُتَكَرِّرٍ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْرَارِ سِوَاهُ.
وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا عَنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ لُزُومَ تَكْرَارِ الْإِذْنِ لِلْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِيهَا مِنْ قوله تعالى: {إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فَأَلْزَمَ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ مِمَّا يُؤْذِي الزَّوْجَ أَيْضًا، وَهَذَا ذُهُولٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قوله تعالى: {إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} الْمَنْعُ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ.
أَمَّا هُنَا فَالنَّظَرُ فِيمَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ يَمِينُ الْحَالِفِ وَيَلْزَمُ بِعَدَمِهِ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّفْظِ النَّاصِّ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا بِالْعِلَّةِ لَوْ صَرَّحَ بِهَا بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ لِإِسْكَارِهِ فَإِنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِزْرًا لَا يَقول أَحَدٌ إنَّهُ حَنِثَ وَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مُسْكِرًا، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا بَلْ اُسْتُنْبِطَتْ كَمَا فَعَلَ هَذَا الْبَاحِثُ حَيْثُ اسْتَنْبَطَ أَنَّ الزَّوْجَ يَكْرَهُ خُرُوجَ زَوْجَتِهِ بِلَا إذْنٍ.
نَعَمْ قَدْ قَالَ: لَا تَجِدُ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ كُلِّ دُخُولٍ إلَّا بِإِذْنٍ، وَكُلُّ مَشِيئَةٍ لِلْعِبَادِ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ قول إنِّي فَاعِلٌ غَدًا كَذَا إلَّا بِقِرَانِهِ بِالْمَشِيئَةِ سِوَى الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ خُصُوصًا فِي الْأَخِيرِ.
وَلَوْ فُرِضَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ إلَّا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ.
وَأَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا الْمَجَازِ أَكْثَرَ وَالْكَثْرَةُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ، وَحِينَئِذٍ كَوْنُ غَيْرِ مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْلَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَا يَكُونُ الْحَذْفُ فِيهِ مُطَّرِدًا مُسْتَمِرًّا مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ بِلَا زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ.
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنْ وَأَنَّ مُطَّرِدٌ وَهُنَا لَفْظَانِ آخَرَانِ هُمَا إلَى أَنْ آذَنَ لَك، وَيَجِبُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ حَتَّى، وَبِغَيْرِ إذْنِي، وَيَجِبُ فِيهِ تَكْرَارُ الْإِذْنِ مِثْلُ إلَّا بِإِذْنِي لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ مَعَ وُجُودِ الْبَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ أَوْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ أَوْ إلَّا أَنْ يَقْدُمَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَقْدُمَ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ فِي دَارِهِ وَاَللَّهِ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْيَمِينُ فِي هَذَا كُلِّهِ لِأَنَّ قُدُومَ فُلَانٍ لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً، وَالْإِذْنُ فِي الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُوجَدُ مِنْ الْكَلَامِ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَكَذَا خُرُوجُ الرَّجُلِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ عَادَةً، بِخِلَافِ الْإِذْنِ لِلزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا ذَلِكَ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ عَادَةً لَا كُلَّ خُرُوجٍ، إلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِيهِ مِثْلُ أَذِنْت لَك أَنْ تَخْرُجِي كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ وَنَحْوِهِ، فَكَانَ الِاقْتِصَارُ فِي هَذَا الْوُجُودِ الصَّارِفِ عَنْ التَّكْرَارِ، لَا لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْكُلِّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ بَلْ مُؤَدَّى اللَّفْظِ مَا ذَكَرْنَا، وَثُبُوتُ خِلَافِهِ لِلصَّارِفِ الْعُرْفِيِّ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُؤَدَّى اللَّفْظِيُّ فِي مِثْلِ إنْ خَرَجْت إلَّا بِإِذْنِي، وَإِلَّا أَنْ آذَنَ لَك لَمْ يَقَعْ الْعُرْفُ بِخِلَافِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ فَوْرٍ.
وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِظْهَارِهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ الرَّدُّ عَنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ وَالْخُرْجَةِ عُرْفًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَيْهِ.
(وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي قَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَخَرَجَ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَنْطَبِقُ عَلَى السُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدَءًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ رَجُلٌ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آخَرُ إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينُ الْفَوْرِ، انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِظْهَارِهَا) وَكَانَتْ الْيَمِينُ فِي عُرْفِهِمْ قِسْمَيْنِ: مُؤَبَّدَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ مُطْلَقًا وَمُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ كَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الشَّهْرَ.
فَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمِينَ الْفَوْرِ وَهِيَ يَمِينٌ مُؤَبَّدَةٌ لَفْظًا مُؤَقَّتَةٌ مَعْنًى تَتَقَيَّدُ بِالْحَالِ، وَهِيَ مَا يَكُونُ جَوَابًا لِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِآخَرَ تَعَالَ تَغَدَّ عِنْدِي فَيَقول إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَيَتَقَيَّدُ بِالْحَالِ.
فَإِذَا تَغَدَّى فِي يَوْمِهِ فِي مَنْزِلِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حِينَ وَقَعَ جَوَابًا تَضَمَّنَ إعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ وَالْمَسْئُولِ الْحَالِيِّ فَيَنْصَرِفُ الْحَلِفُ إلَى الْغَدَاءِ الْحَالِيِّ لِتَقَعَ الْمُطَابَقَةُ فَلَزِمَ الْحَالُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا تَغَدَّى فِي مَنْزِلِهِ مِنْ يَوْمِهِ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْجَوَابِ فَيُعْتَبَرُ مُبْتَدِئًا لَا مُجِيبًا فَيُعْمَلُ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَيُلْغَى ظَاهِرُ الْحَالِ، وَإِلْغَاؤُهُ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي مَعْنَاهُ أَوْ مَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ حَالِيٍّ، كَامْرَأَةٍ تَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ فَحَلَفَ لَا تَخْرُجُ فَإِذَا جَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ الَّذِي تَهَيَّأَتْ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ خَرَجْت السَّاعَةَ، وَمِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَحَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَضْرِبُهُ.
فَإِذَا تَرَكَهُ سَاعَةً بِحَيْثُ يَذْهَبُ فَوْرُ ذَلِكَ ثُمَّ ضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ لِذَلِكَ بِعَيْنِهِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْنَثُ.
وَهُوَ قوليْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ غَدَاءٍ وَخُرُوجٍ وَضَرْبٍ.
فَاعْتُبِرَ الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرْنَا.
وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَحْنَثُ وَإِنَّ نَوَى لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَنْوِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا، وَكَذَا شَرْعًا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لِلْبَائِعِ» الْحَدِيثَ فَتَخْتَلُّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا: يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلسَّيِّدِ عِنْدَهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ انْعَقَدَ عَلَى حِمَارِهِ وَبَغْلَتِهِ وَفَرَسِهِ، فَلَوْ رَكِبَ جَمَلَهُ أَوْ فِيلَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّابَّةِ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَهُ بِالْمَرْكُوبِ الْمُعْتَادِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ رُكُوبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمَلُ مِمَّا يُرْكَبُ أَيْضًا فِي الْأَسْفَارِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَحْنَثُ بِالْجَمَلِ إلَّا إذَا نَوَاهُ، وَكَذَا الْفِيلُ وَالْبَقَرُ إذَا نَوَاهُ حَنِثَ وَإِلَّا لَا.
وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْبَدْوِ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى الْجَمَلِ أَيْضًا بِلَا نِيَّةٍ لِأَنَّ رُكُوبَهَا مُعْتَادٌ لَهُمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ حَضَرِيًّا جَمَّالًا وَالْمَحْلُوفُ عَلَى دَابَّتِهِ جَمَّالٌ دَخَلَ فِي يَمِينِهِ بِلَا نِيَّةٍ.
وَإِذَا كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ انْعِقَادُهَا عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ.
فَلَوْ نَوَى بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ بِأَنْ نَوَى الْحِمَارَ دُونَ الْفَرَسِ مَثَلًا لَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً، لِأَنَّ نِيَّةَ الْخُصُوصِ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ اللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى دَابَّتِهِ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِكُلِّ مَرْكَبٍ سَفِينَةٍ أَوْ مَحْمَلٍ أَوْ دَابَّةٍ وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةَ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ مَدْيُونٍ أَوْ غَيْرِ مَدْيُونٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ دَابَّةَ عَبْدِهِ فَيَحْنَثُ بِهِ.
إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ بِرُكُوبِهَا وَإِنْ نَوَى دَابَّةَ الْعَبْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ دَابَّةِ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى لَكِنَّهُ عَرَضَتْ إضَافَتُهُ إلَى الْعَبْدِ عُرْفًا وَشَرْعًا.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ، وَإِنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعَ» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاخْتَلَّتْ إضَافَةُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُ فَقَصْرُ الْإِطْلَاقِ عَنْ تَنَاوُلِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا: وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ يَحْنَثُ إذَا نَوَاهُ، فَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَنَوَاهُ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ السَّيِّدِ لِمَا فِي يَدِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ وَإِنْ اسْتَغْرَقَ فَيَحْنَثُ بِنِيَّتِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ نَوَى دَابَّةَ الْعَبْدِ أَوْ لَمْ يَنْوِ لِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا: أَيْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا الْمَحْلُوفُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَمَا فِي يَدِ الْمَأْذُونِ مِلْكُ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا مُسْتَغْرِقًا فَيَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ بِرُكُوبِهَا، وَقول مُحَمَّدٍ هُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَسْعَدُ بِالْعُرْفِ هُنَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ هَذِهِ دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ، وَتِلْكَ دَابَّةُ سَيِّدِهِ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مَا يُضِيفُهُ الْعُرْفُ إلَيْهِ لَا إلَى مَا يُضِيفُهُ الْمِلْكُ إلَيْهِ مَعَ إضَافَةِ الْعُرْفِ إيَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ إذَا صَارَتْ هَذِهِ الدَّابَّةُ تُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ لَا يَنْعَقِدَ عَلَيْهَا إلَّا بِقَصْدِهَا، لِأَنَّهُ إنْ نُظِرَ إلَى إضَافَتِهَا إلَيْهِ انْعَقَدَتْ عَلَيْهَا، وَإِنْ نُظِرَ إلَى إضَافَتِهَا إلَى غَيْرِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَقول إذَا كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى السَّيِّدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْعُرْفَ مَا كَانَ يُضِيفُهُ إلَى السَّيِّدِ مَعَ إضَافَتِهِ إلَى الْعَبْدِ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى.